وظيفة شاغرة لرئيس وزراء الحكومة الانتقالية في السودان !
منذ نحو عامين تقريبًا يعيش السودان حالة فراغ دستوري كامل، دون حكومة تقوم بمهامها الوظيفية، مثلما يحدث في كل دول العالم، لدرجة تطّبع فيها الناس على هذا الوضع الاستثنائي الغريب، ليصبح هو الوضع الطبيعي، وأضحى وجود رئيس وزراء وبرلمان يجتمع فيه نواب الشعب، حلمًا بعيد المنال!
في أكتوبر/تشرين الأول 2021 أعلن قائد الجيش السوداني الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان حالة الطوارئ في البلاد وحل الحكومة ومجلس السيادة، وأكد أنه سيعمل على تشكيل برلمان من شباب الثورة وحكومة كفاءات جديدة لتولي إدارة الأمور في البلاد، لكن شيئًا من ذلك لم يحدث، مر العام الأول والثاني، ثم عاد مرة ثانية، ولوّح بتشكيل حكومة تصريف أعمال لحين توافق الفرقاء السياسيين، وهو توافق غير ممكن، بل هو المستحيل بعينه وسط حالة الكراهية والكيد السياسي والعراقيل والرغبة في الانفراد بالسلطة.
لعبة بين يدي الساسة والعساكر
في خطاب جديد، أعلن البرهان كذلك عن تشكيل حكومة مدنية قريبًا، وهو قرب بلا مدى زمني، يحرر صاحبه من الحرج إذا حان ذلك اليوم الموعود، ثم دخل رئيس البعثة الأممية في السودان فولكر بيرتس على الخط، وكشف عن تسمية رئيس الوزراء الانتقالي قبل رمضان، كان ذلك قبل شهر تقريبًا، ونحن الآن بين يدي الشهر الفضيل، دون أن تلوح نذر أي حكومة، بل حتى أنه لم يتم الاتفاق على آلية اختيار رئيس الوزراء، ولا أحد يعرف من هو؟ وكيف سيتم ترشيحه؟ دعك من اختياره، جميعنا في انتظار ذلك الرجل الذي لا يصل أبدًا، كما هو الحال في مسرحية الكاتب الإيرلندي صمويل بيكيت (في انتظار غودو).
في الحقيقة لم تتوقف مثل تلك التسريبات، التي ملّها الناس، كلها تصريحات مجانية، تنطلق بها الألسن وتتجاهلها أحيانًا وسائل الإعلام، وقد أصبح هذا الشعب المسكين، في حيرة من أمره العام، لعبة بين يدي الساسة والعساكر.
ثمة شخص يسمى عثمان حسين عثمان، مكتوب في بطاقته الشخصية أنه وزير شؤون مجلس الوزراء المكلف، يؤدي مهامه بعيدًا عن الأضواء، بالكاد يتذكر أحد ملامحه، أو يحتفظ له بتصريح، أو رآه خارج مباني القصر الرئاسي، يقوم بزيارة لمؤسسة حكومية، أو يفتتح أي منشأة، كما يفعل رؤساء الحكومات في العادة، ويبدو أن عثمان حسين لا يستشعر خطورة هذا التكليف، مجرد موظف حكومي يشغل خانة مهمة لا تزال شاغرة، ويقبض راتبه آخر الشهر.
حكومة لله يا محسنين
لا توجد دولة في العالم بلا حكومة، حتى الدول التي تعيش تحت وطأة الحروب، أو تلك التي تسيطر عليها دول أخرى، دائمًا هنالك حكومات، سواء كانت وطنية أو موالية للخارج، رأسمالية أو اشتراكية، بنظام رئاسي أو برلماني، سيما وأن الحكومة هي النظام السياسي الذي يتم من خلاله إدارة وتنظيم أي بلد أو مجتمع، وهي بالضرورة مسؤولة عن وضع القوانين وإدارة الاقتصاد وإنفاذ السياسات.
لكن في بلادنا الوضع مختلف، لا توجد حكومة ولا رئيس وزراء ولا محكمة دستورية تفصل في المنازعات الكبرى، ولا يوجد برلمان يقوم بالتشريع والرقابة على السلطة وإجازة الموازنة المالية السنوية، فقط هنالك وزارات ومواقع سيادية تشغلها الحركات المسلحة، حتى أيام حكم قوى الحرية والتغيير، لم يكن هنالك برلمان، وكان مجلسا السيادة والوزراء يقومان بمهمة المجلس التشريعي، تجنبًا للمساءلة والرقابة، ما يعني أننا بلد خارج التاريخ، تتحدث عن الثورة، ولا تهتم بمطالبها، تأكل شعاراتها، كما تأكل البهائم التبن، تتحدث فيه القوى السياسية عن الديمقراطية، ولا تريد الانتخابات، خشية أن يختار الشارع غيرها، الديمقراطية والحكم المدني، محض كلمات يلوكها البعض، بعيدًا عن ولاية الدستور والانتخابات وتداول السلطة والتعددية السياسية وحرية التعبير.
يحار المرء، هل عقمت حواء السودانية عن ولادة شخص يصلح لهذا المنصب المهم؟ بل كيف فشلت النخبة السياسية والعسكرية، طوال السنوات الماضية في تسمية هذه الحكومة؟ حكومة لله يا محسنين.. في الحقيقة هو فشل غير مبرر، وإنما استهتار وعدم مسؤولية تتحملها الأطراف جميعها، لدرجة تردت فيها الأوضاع بصورة غير مسبوقة، وأصبح السودان دولة طاردة، على شفا جرف هار، تتحكم فيه الفوضى، وتتصارع فيه الجيوش والميليشيات وعملاء السفارات للسيطرة على السُلطة.
رئيس الوزراء المطلوب
غادر الدكتور عبد الله حمدوك قصر كتنشر الخرطومي في يناير/كانون الثاني 2022 لا يلوى على شيء، وهو للمفارقة، لا علاقة له بالثورة، ولم يشارك فيها ولو بتغريدة على تويتر، ولم يكن متحمسًا لمهمته، ومع ذلك حصل على شعبية كبيرة تبددت بمرور الأيام، وبمجرد أن سقطت الحكومة وأُطلق سراحه، دفع باستقالته، ثم هاجر إلى الإمارات العربية المتحدة، كما لو أنه كان يريد أن يتخلص من ذلك العبء، بيده أو بيد البرهان وحميدتي، فركل الباب خلفه، ثم توارى عن الأنظار، والآن هنالك الكثير من الأسماء التي تحمل صفة مرشح رئاسة الوزراء الانتقالي، شخصيات سياسية وأكاديمية، على رأسهم الدكتور كامل إدريس، رئيس محكمة التحكيم والوساطة الدولية، ومدير منظمة الملكية الفكرية السابق، والدكتور إبراهيم البدوي وزير مالية حكومة حمدوك، الذي يحظى بدعم حزب الأمة القومي، والدكتور محمد الأمين إسماعيل، مرشح شرق السودان، فضلًا على بروز ثلاث شخصيات تقاتل للفوز بثقة البعثات الأجنبية، بعيدًا عن حواضنها السياسية، وهم ياسر عرمان القيادي في الحركة الشعبية شمال، ومستشار حمدوك السابق، وكذلك القيادي في قوى الحرية والتغيير طه عثمان، أحد أهم المفاوضين بين المكون المدني والعسكري، وأيضًا وزير العدل السابق نصر الدين عبد الباري، الذي يتم إعداده لهذه المهمة، ويكاد يكون هو مرشح الولايات المتحدة الأمريكية المفضل، وهنالك أسماء أُخر أقل شهرة.
عمومًا فإن البلاد بها حاجة لرئيس وزراء، تتوافر له رؤية للقضايا، ومؤسسات لإنفاذ تلك الرؤية، وبوصلة أخلاقية هادية، ولأنه رئيس انتقالي لا بد أن تقتصر مهامه على معاش الناس وأمنهم، وتهيئة البلاد للانتخابات، وقبل كل شيء أن يتمتع بالحس الوطني، والرغبة الصادقة في خدمة هذا الشعب، بعيدًا عن إملاءات السفارات والمحاور الخارجية، ليكون جديرًا بهذه الوظيفة الشاغرة.
المصدر : الجزيرة مباشر
عزمي عبد الرازق
كاتب وصحفي سوداني