جريدة لندنية : السودان..ليس الرصاص وحده فجيعة الحرب بل صدمة الجوار وبؤس المجتمع المدني
مصدر الخبر / صحيفة القدس العربي
الوجه الآخر لقبح الحرب ومأساتها الإنسانية الماثلة في السودان منذ 15 نيسان/أبريل الماضي، لا يتمثل فقط في الرقم المفزع للضحايا من المدنيين الذين فاقوا خلال 60 يوما ضحايا حرب أوكرانيا خلال عام ويزيد، وليس وقفا عند موجة النزوح واللجوء التي فاقت وفق تقديرات الأمم المتحدة 2.2 مليون مواطن، ولكن القبح يتجلى في أن فشل قيادة العسكر يخفي خلفه بؤس صمت المجتمع المدني الداخلي والخارجي، وعجزه عن أي فعل يوازي ما يجري من سيرة الدم المهدر يوميا.
فإن سلّمنا بأن الجنرالات يواصلون الدوس على الجماجم نحو مقعد السلطة، فإن المنظمات الإنسانية الأممية والإقليمية والمحلية، اكتفت لحد كبير بالفرجة، وبعض من بيانات خجولة، ليبقى الدور المشهود للجان المقاومة في أحياء الخرطوم التي قاومت الموت وحرب الجنرالات بتنسيق ميداني لتقديم جهد علاجي وغذائي في الكثير من أحياء العاصمة.
عندما كان الرصاص ينهش الأرواح، ونقص الغذاء وصعوبة الوصول إليه تجهز على الأجساد المهدودة جراء التمدد أسفل الأسرة خشية النيران، كان شباب ثورة ديسمبر/كانون الأول يخاطرون بحياتهم في عمليات إجلاء لمرضى كبار في السن من منازلهم، أو أسعاف مصابين، وحدهم كانوا الفاعل المدني الميداني.
مجتمع مدني هش
بينت الحرب أن بنية منظمات المجتمع المدني السودانية هشة، ربما بسبب سياسات التضييق من النظام البائد، وكذلك إهمال دورها في فترة حكومتي حمدوك، بجانب أن الأحزاب السياسية أغفلت مسألة إعادة تكوين النقابات وتعزيز دور المجتمع المدني، بل وعمدت إلى ضعضة تجمع المهنيين السودانيين نفسه وتقسيمه في ظل الصراع على السلطة، ليصبح الظهير المدني في أضعف حالاته.
ووضح أيضا من راهن الحال، أن هذه المنظمات لا تملك شراكات إقليمية أو دولية يمكنها إطلاق حملات ضخمة، وللمفارقة لم تشهد المنطقة العربية أو الأفريقية أو الدولية أي بادرة لجهد جماعي من قبل شبكات المنظمات الحقوقية أو المدنية ولو من باب الضغط على الحكومات والرأي العام بشأن الحرب في السودان وجرائم القتل وويلات الاغتصاب والنهب، ما يشير لحالة العجز المدني في كل العواصم الإقليمية إن لم نقل أن تلك اللافتات المدنية الضخمة نفسها ارتهنت للأنظمة وما تقره من سياسات تجاه السودان.
إجلاء الرعايا… وماذا بعد؟
بعد ساعات من انطلاق أول رصاصة في 15 نيسان/أبريل الماضي، تسارعت خطى البعثات الدبلوماسية والأممية في إجلاء رعاياها – وهذا واجبها – ولكنها لم تترك خلفها بعضا مما يدلل على قيم المجتمع الدولي الإنساني والتي تحشد لها الجيوش في بعض الأحيان، وبعد مرور شهرين على الحرب لم يتغير الوضع الإنساني إلا للأسوأ.
وفقا لمنظمات دولية فإن من نزحوا من السودانيين، خرجوا من 6 ولايات رئيسية، بما في ذلك الخرطوم، وغرب دارفور، وجنوب دارفور، وشمال دارفور وشمال كردفان، ووسط دارفور، فهل تمدد مساحة الأمان النسبي ببعض المدن تم توظيفها لصالح دعم الهاربين من الولايات المذكورة؟ الإجابة تتجسد يوميا في حالات الوفاة والأزمة الإنسانية للعالقين.
صحيح أن صوت إدانات الحرب هي الأعلى غير أن بؤس الحرب يتجسد كل ساعة في كل مكان، الرعب، النهب، الغذاء، رحلة الخروج، مأساة المعابر… الخ.
المنظمات الأممية والإقليمية
هل حققت المنظمات الأممية والإقليمية وجودا في المدن الآمنة والمعابر مثلا؟ فقد أعلنت المنظمة الدولية للهجرة، الأربعاء الماضي، أن عدد النازحين قسرا وصل إلى 2.2 مليون شخص.
وكشفت المنظمة، في بيان الأربعاء، أن السودان شهد نزوح أكثر من مليون و670 ألف شخص داخليا، بينما بلغ عدد من غادروا الحدود نحو 528 ألفا و147 وكل من غادروا الحدود لم يجدوا عونا إنسانيا في المعابر رغم الحالات الصحية بدليل عدد الوفيات عند المعابر.
قد نجد مبررا – بالنسبة لي غير قابل للابتلاع – أن الوضع الأمني في الخرطوم منع المنظمات الأممية من تقديم العلاج والمساعدات للضحايا المدنيين، فلماذا لم تشرع المنظمات ولو ببادرة تقديم العون ذاته للضحايا في مدن السودان البعيدة عن الحرب نسبيا، وهي المدن التي لجأ إليها الهاربون من الموت، وعبرها أيضا الهاربون عبر عمليات الإجلاء من الأجانب وصولا لميناء بورتسودان، والتي انتقلت إليها بعض البعثات الدبلوماسية؟
فهل عجزت منظمة الصحة العالمية في أن تقيم مستشفى ميدانيا يوفر الخدمة للمرضى والمصابين بولايات السودان الأخرى، أليس من العار أن ينزح مرضى الكلى بعد توقف مشافي الخرطوم عن العمل فيموتون بالعشرات يوميا، كما حدث في مدينة الجنينة حيث توفي العشرات في يوم واحد، بينما تشهد كل المدن رحيل آخرين في صمت.
عدا جهود منظمة يونسيف في إجلاء حوالي 300 طفل من فاقدي السند بدار رعاية الطفل بالمايقوما في الخرطوم إلى مدينة ود مدني جنوبا الأسبوع الماضي، وبعض الجهود التي قدمتها منظمة أطباء بلا حدود، تخلو الساحة من جهد أممي مدني حقيقي وميداني، بل وحتى مساء الخميس عقب أخبار الحرب التي أحرقت كل شيء في الجنينة، عادت الأمم المتحدة لتشعر بفداحة ما يجري، ونقلت الأخبار عنها أنه «لا يمكن للعالم السماح بأن تشهد دارفور في السودان كارثة إنسانية مجددا» ولكن حتى اللحظة لا تعلن المنظمة الأممية خطتها الميدانية للتدخل الإنساني، بينما تتمدد المأساة باتجاه جرائم الحرب.
مصر… على الأرض لا شيء
للتدليل على أن الأزمة التي يتعرض لها السودانيون تشمل من يعانون حتى اللحظة من الحرب ومن هربوا منها أيضا، ففي 6 حزيران/يونيو حملت الأخبار، نقلا عن ماجد الأنصاري مستشار رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية القطري، حديثا بشأن دور قطر في دعم اللاجئين السودانيين على ضوء الاتصال الذي أجراه الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير قطر مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، حيث قال الأنصاري إن الدوحة تعمل على استكمال جهودها في المجال الإنساني، وإن هناك اتفاقا تم بين الدوحة والقاهرة بشأن دعم اللاجئين السودانيين في مصر ودول الجوار. فهل تحقق شيء على الأرض المصرية؟ مضت السلطات المصرية منفردة وفي الاتجاه المعاكس تماما، حيث أعلنت القاهرة في 9 حزيران/يونيو الجاري، فرضها لاشتراطات جديدة لدخول السودانيين لمصر، وألزمتهم بالحصول على تأشيرة مسبقة. وحسب القرار فلن يسمح للسودانيين بدخول مصر سوى بعد الحصول على تأشيرات مسبقة، وذلك لكل الفئات العمرية وللجنسين، وهكذا ألغى القرار الأخير الاستثناء الذي كان يمنح الأطفال تحت عمر 16 والنساء وكبار السن فوق الـ55 عاما من الحصول على تأشيرة مسبقة، ضمن التزام مصر بمبدأ الحق في التنقل، كأحد مبادئ اتفاقية الحريات الأربع، الموقع عليها مع السودان عام 2004.
ففي الوقت الذي كان عشرات الآلاف ينتظرون في معبري قسطل وأشكيت، أتتهم الصدمة، فقد درجت العادة وفي ظل أوضاع الحرب أن تفتح الحدود بأقل إجراءات ممكنة، غير أن القاهرة ألغت حتى الاستثناءات لتضاعف من مأساة الهاربين من الموت، بل وزادت من تعقيد الإجراءات، حيث عممت قنصليتها في وادي حلفا السودانية، قرارا يلزم المواطنين السودانيين الراغبين في السفر إلى مصر، بملء استمارتين، تتعلق الأولى بطلب الحصول على التأشيرة، والثانية تتضمن بيانات الأموال التي بحوزتهم والأقارب والمعارف الموجودين في مصر، ومحل السكن في مصر والسودان، والموعد المتوقع للعودة إلى السودان.!
في الأسبوعين الأولين سطر النوبيون المصريون ملحمة شعبية في استقبال ضيوفهم بأسوان وغيرها، أما على مستوى الدولة والمجتمع المدني المصري، فليس سوى تضييق رسمي لدخول السودانيين وغياب كامل للمجتمع المدني المصري إلا قلة وهم أفراد مبادرون قدموا الكثير.
أخيرا الحرب ليست الرصاص فحسب